إنطوت جريمة اغتيال الناشط في النظام السوري محمد ضرار جمّو فجر أمس في الصرفند على كثير من الرسائل والقراءات، خصوصاً إذا ما وضعها منطق الأمور في إطار المسلسل عينه الذي بدأ بملاحقة مواكب «حزب الله» في مناطق عدة مروراً بتفجير بئر العبد. وهو ما يعيد الى الأذهان مسلسل ملاحقة النظام لمعارضيه في مناطق لبنانية عدة. فما هي المخاوف التي تحكم المرحلة؟

لم يفاجئ إغتيال جمّو ايّاً من المراجع الأمنية والسياسية اللبنانية، فقد كانت كل التقارير الأمنية التي تبادلتها هذه المراجع المحلية منها والإقليمية والدولية، تشير في وضوح الى اقتراب الساحة اللبنانية من التحول مرآةً للأزمة السورية وتداعياتها السلبية، ولا سيما الأمنية منها بعدما زاد تدخل حزب الله في سوريا من حدّة المواجهة المحتمَلة بين طرفَي النزاع هناك وفي لبنان.

وتعترف المراجع المعنية بأنها جندت معظم قواها الأمنية وعيونها المخابراتية لرصد كل التحركات المشبوهة في مناطق تُعتبر اكثر حساسية من اي مناطق أخرى، ولا سيما منها تلك التي تشهد وجوداً لأنصار النظام او المعارضة، او في المناطق التي تقع على تماس بين الطرفين، سواء في بيروت او ضاحيتها الجنوبية أو في البقاع والجنوب تحسباً لوقوع تفجيرات او اغتيال شخصيات سياسية او اعلامية لبنانية او سورية تؤيد الثورة السورية أوتعارضها، ملمحة الى انّ هنالك أهدافاً محتملة وشخصيات معرّضة لمثل هذه الحوادث بمعزل عن المناطق او المواقع الإستراتيجية التي تشكل أهدافاً طبيعية للطرفين.

وفي علم الأجهزة اللبنانية انّ النظام السوري جمّد منذ فترة طويلة عملياته الثأرية من المعارضة السورية في العمق اللبناني، وفي كثير من المناطق وهو مكتف منذ فترة برصد كل تحركاتهم وملاجئهم وحركة اتصالاتهم في لبنان، وحيث استطاع الى ذلك سبيلاً في عدد من دول العالم. فهو يقوم بهذه العمليات بالتعاون الوثيق بين أجهزته التي تحظى برعاية السفارة السورية وحمايتها الديبلوماسية والأجهزة الحزبية المتعاونة معها منذ زمن بعيد، يعود الى إختفاء المسؤول السابق في حزب البعث شبلي العيسمي وعدد من اللبنانيين الذين سقطوا ضحية أعمال خطف أخرى طاولتهم وسوريين نُقلوا بعدها الى الأراضي السورية. وكانت بيروت والشمال مسرحاً لأعمال من هذا النوع لا تُحصى، علماً انّ بعض ضحاياها ما زالوا مفقودين ولم تتوافر ايّ معلومات عن مصيرهم بعد.

وفي المقابل، قرأت المراجع الأمنية في المعطيات المتوافرة من أعمال التفجير التي ضربت بئر العبد قبل ان تلاحق مسؤولي "حزب الله" وترصد مواكبهم من بيروت والجنوب والبقاع في اتجاه الداخل السوري، تطوراً نوعياً مهماً. فبعد سلسلة العبوات التي فجّرت في البقاع وعلى طريق تعنايل ـ المصنع وفي مناطق مختلفة من بيروت، سُجل إنتقال سريع من "الهواية" الى منطق "الإحتراف" مذ نجح المخططون في إصابة موكب للحزب على طريق مجدل عنجر أمس الأول، وبعد تفريغ 30 رصاصة امس في جسد جمّو للدلالة على حجم "حقد دفين" عبّر عنه مرتكبو الجريمة بصراحة ما بعدها صراحة.

وزاد الإقتناع بهذا الإنتقال التقني والعسكري الى مزيد من الحرفية في التفجير والإغتيال الذي حققه المنفذون باغتيال جمّو في منطقة يعتبرها امثاله منطقة آمنة بامتياز. فهو منذ انتقاله وعائلته الى لبنان هرباً من الجحيم السوري يعيش حياة طبيعية في الصرفند. وقد فاتح كثيراً من أصدقائه بأنه لا يأبه للتهديدات التي تلقاها طالما أنه في بيئة حاضنة له ولعائلته توفّر له التحرك طبيعياً بين منزله والمؤسسات الإعلامية التي جال فيها في الأيام الأخيرة ضيفاً على شاشاتها وأثيرها.

وفي المنطق الأمني ـ المخابراتي فقد سجّلت هذه الوقائع سيلاً من الملاحظات ابرزها قدرة الجماعات المنفذة على الدخول الى المناطق التي يُعتقد انها محظورة او محصنة بالعيون البشرية والكاميرات التي ترصد انفاس سكانها وزوارها، خصوصاً الغرباء منهم، ما يوحي انّ هناك من تمكن من الإقتراب كثيراً من مدار الخطوط الحمر، فمثل هذه العمليات لا تُنجَز بالفطرة او بالمصادفة، بل إنها نتيجة عمل فريق امني مدرب ومتكامل، فيه من يراقب ويرصد الحركة من منطقة ألى أخرى بتوجيه ممن يخطط ويختار الأهداف، وهي عملية معقدة بكل المعايير منعاً للأخطاء القاتلة.

وعلى هذه الخلفيات، يعتقد المعنيون بالملفات الأمنية انّ جريمة الصرفند قد تكون الحلقة الأولى من المسلسل الدموي المنتظَر على الساحة اللبنانية بعدما تحولت مرآة للأزمة السورية التي تخطت في فصولها كل المعايير السابقة باتجاه منطق الإلغاء والتصفية الجسدية. والأخطر من ذلك هو ان تستدرج لائحة الأهداف التي اختيرت بعناية فائقة والتي تضمّ لبنانيين وسوريين لبنانَ الى الفتنة المذهبية التي يتجنبها الجميع. ولكن ماذا ستكون الحيلة إذا نجح المخططون في استدراج اللبنانيين والسوريين اليها تحت شعارات لها ما يبررها في منطق النزاع على البقاء مهما كلف الأمر، وايّاً تكن النتائج المترتبة عليها، إذا صح المنطق القائل "إنّ الأهداف تبرّر الوسائل"؟.